فيينا مدينة الثقافة: بثينة بن عليلة
فيينا مدينة الثقافة: بثينة بن عليلة
الحوار بين التاريخ والفن ..تجربة أمرأءة عربية كدليل سياحي في متاحف النمسا
في قلب فيينا، حيث يلتقي التاريخ بالفن في أروقة المتاحف العريقة تعمل كدليل سياحي، تنقل للزوار سحر المدينة من منظورها الفريد. شغوفة بالثقافة والتاريخ، نجحت في بناء جسر بين الحضارات، تُرشد السياح عبر لوحات عصر النهضة، وقاعات الإمبراطورية النمساوية، وتروي الحكايات التي لا تُنسى عن هذه المدينة الساحرة في هذا الحوار، تشاركنا رحلتها، التحديات التي واجهتها، وكيف أصبح شغفها بالتراث نافذتها إلى العالم إنها السيدة بثينة بن عليلة اهلا ومرحبا بك في مجلة رواني
س/ كيف اكتسبتي شغفك بالعمل كدليل سياحي في المتاحف الأوربية ؟
حبي وشغفي بالتاريخ هما اللذان جذباني للتعلّم والتّعليم التّطبيقي بالمتاحف بصفة عامّة لكنّ ما جذبني فعلا المتاحف الأوروبية هو الكمّ الهائل للثّقافات الأخرى والتّحف النّادرة من حضارات قديمة جدّا لم يكن لها الحظّ في هذه المتاحف أن تعرف كما يجب في إطارها الفني والتاريخي وكيف إنتهى بها المطاف ..في نفس الوقت عايشت تجربة الجيل الثاني والثالث من الجاليات الشرقية والمشرقية والإفريقية والأمريكية الجنوبية المغتربة التي تعمل في كلّ المجالات وخاصّة الفنانين و المثقفين الذين يحاولون تغيير التّفكير النّمطي الأوروبي والغربي وإبراز أهميّة الحضارات والتاريخ والفنون البشرية على مدى العصور حتى نصل للتّقدّم العلمي والحضاري والتقني الذي نعيشه اليوم
هذا ما جعلني أدرس التاريخ الإسلامي لأفهم هذه الحضارة العظيمة التي جئت منها بكوني تونسية الأصل والمنشأ. ثمّ تعمّقت في تاريخ الديانات والحضارات وإهتممت بالتاريخ الأوروبي القديم و الإستعماري. هذه الدّراسات كانت على هامش عملي ودراساتي في ماجيستير العلوم الوراثية و البيوتكنولوجيا
ما الذي جذبكِ إلى دراسة التاريخ أو الفن، وكيف أثر ذلك على حياتكِ المهنية؟
وبصراحة أنا محظوظة جدا لكوني درست في جامعة العلوم بصفافس في بلدي الحبيب تونس وفي باريس وفي فيينا وزيوريخ عند ألمع علماء العلوم الطبيعية والبيولوجيا والزوولوجيا أوعلوم البحار أوعلوم الوراثة أو أخلاقيات العلم أو تاريخ العلوم أو العلوم عند الحضارات المختلفة. هذا التلاقح الحضاري العظيم ووجه الشبه في كل الأوقات جعلني أهتمّ أكثر بالتّطوّر البشري وخاصة التطور الفكري عند البشر في كلّ المجالات لمقاومة مختلف الأمراض وتحسين ظروف حياته. هذا ما سمح لي أن أدرس كتبا لعلماء وأطباء كثر تأثروا بالحضارة الإسلامية وما أجمل أن مرة هذه المخطوطات في المتاحف والمكتبات العالمية مثل المكتبة الوطنية بباريس أو المكتبة الخاصة بكلية العلوم في فيينا أو مكتبة كلية زيوريخ أو „أي تي ها“..علما إهتمامي بمجالات عدّة جعل أصدقائي وزملائي يكونون من كل الجنسيات والديانات والمجالات..
ما التحديات التي واجهتِها كامرأة عربية تعمل في بيئة سياحية أوروبية؟
كإمرأة عربية مسلمة في بلد اوروبية كالنمسا تعترف بالإسلام من أكثر من 100 سنة يهمني أن أعمل بملابسي وبملابس حضارتي وديني لذلك كان من المهم أن أكون على علم وعلى دراسة بالتحديات في كل المجالات.. المجالات العلمية والبحوث هي أكثر عنصرية وتعنت من مجال الثقافة والفنون والتعليم والسياحة لاسيما هذا المجال هو نقطة وصل بين الثقافات وهو عالمي بالأساس له ضيوفه ومتطلباتهم وله واجهة تحدي كبيرة تبرز في خلق مساحة أمان وثقة لكي يحبّ زائر مكان المتحف ويستمتع به فيعود مرة أخرى لذلك أنا لا أهتم بالسياحة على قدر ما أهتم بالتعليم وتبادل الخبرات وباللقاء الحضاري والعمل التوعوي في المجتمع الأوروبي
كيف تستفيدين من خلفيتكِ الثقافية في تقديم تجربة غنية ومتنوعة للزوار؟
أنا تونسية الأصل والمنشأ وأصل عائلتي من جدّة في السعودية ومن إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية زمن البايات. جدّ أمي وجدّ أبي الإثنان وجدا حبّ حياتهما في تونس وإستقرّا هناك وعاشا وكوّنا عائلات كانت السّبب في وجودي في هذه الحياة لذلك أنا أؤمن أنّ الأصل هو الإنسان وطاقته في الحبّ وخلق المحبّة من حوله ونشرها وتعليم مبادئها للأجيال المقبلة أينما كانوا أوعاشوا
حكاية عائلتي وأصلها وأهمية التعليم والعمل الصادق والكلمة المخلصة للضمير الإنساني الذي يحثنا عليه الدين الإسلامي الحنيف..فمن جماليات هذا الدين كل تاريخه الفني عبر العصوروليومنا هذا يتميّز بالفن الإسلامي والمعماري ويعتبر كل العلماء المسلمين أهمّ العلماء والفنانين الذين اثروا في عصور النهضة الغربية. فالتاريخ البشري لم يبدأ في العصور الوسطى وعصور الثورة الصناعية وإنما بدأ من عصور الرازي وإبن سينا وإبن رشد والخوارزمي والفلسفة لم تبدأ من نيتشة وغوتة بل لها فصول كثيرة في زمان المعري وغيرهم….. هذا العالم الغني الذي لدي الشرف أن أكون منه أيضا لا يقتصر على التاريخ والحضارات القديمة وإنما في الفن والتاريخ الحديث هو احسن مثال.
عندما يستوعب الزوار هذه الحكاية المنسية يبدؤ فضولهم في العمل ويحاولون الإستفسار أكثر والتخيّل بحريّة دون التفكير النمطي الذي يغرس في كلّ بيئة متشدّدة وتقليدية من رياض الاطفال إلى الجامعات والوظائف بمختلف أهميتها وحساسيتها.
هل هناك فرق في أسلوب تقديمكِ للمعلومات للسياح العرب مقارنة بالسياح الأوروبيين؟
التاريخ هو نفسه لكن المتلقي ومستوى لغته وتفهمه يختلفان من شخص لآخر لذلك من أهمّ المشاريع التي أعمل عليها من أكثر من 15 سنة هي تبسيط اللّغة التّعليمية وتطوير أساليب تعلّم حديثة تجعل المتلقي يستسيغ الدروس ويستمتع بالمعلومة. أكثر ويفهم التاريخ برؤية شرقية أيضا وليس فقط بمنظور أوروبي بحت. برامجي الخاصّة باللّغات والإندماج بالمتحف متنوّعة حسب العمر و المستوى الدّراسي وحسب اللّغة الأم ومتطلّبات الحياة اليومية في أوروبا أو حسب السّائح الذي يبحث عن الإثارة و القصص المخفيّة و المثيرة للاهتمام التي لا يجدها في دليل السّائح. البحث والدراسة اليومية والمتجدّدة تجعل من عملي شيّقا وحيويّا مع جمهور مختلف في كلّ ساعة. وكأننا في مدرسة كبيرة فصولها معارض المتحف لكنّ روّادها ليسوا فقط نفس تلاميذ الفصل وإنما كل العالم ومن كل الجنسيات والديانات. هذه المدرسة الحقيقية و الواقعية مدرسة الحياة العملية بدروس تطبيقية من الماضي في ورشات عمل مباشرة مع صنّاع التاريخ الاوروبي العالمي رافايلو و مايكل انجيلو وليوناردو دافينشي او موني وماتيس وبيكاسو وشاغال وهولدر وغالان كاليلا وإيغون شيلي وكليمت!
ما المتحف أو المعرض المفضل لديكِ في أوروبا، ولماذا؟
عملت في معارض مختلفة وكثيرة وإهتممت بمواضيع وفناني مختلفين في المدارس وفي التفكير لكني أحبّ مجموعة باتلينار في متحف الألبيرتينا التي تبقى الاروع في مدينة فيينا عاصمة النمسا هذه المجموعة الغنية التي جمعت كلّ الفنانين المنبوذين في عصورهم أو الغير محظوظين في بلدانهم أو الفنانين المفكرين الناقدين لعالمهم والمانحين لعالم أفضل بدون حروب وبدون مآسي ..أين كان لي شرف إحياء سهرة شعرية باللغتين العربية والألمانية لأول مرّة في تاريخ القصر العظيم في أواخر شهر أكتوبر 2023 في قاعة الفنان الإسباني بابلو بيكاسو وكانت فرصة للتحدث عن المرأة والحبّ والغربة والحرب العالمية الثانية والمقاومة بالفن التي يبدع بيكاسو بتجسيد كل تفاصيلها..أحبّ مدرسة اللوفر وجمعية أصدقاء المتحف فقد تعلّمت في ورشاتها وفي كلّ السّهرات والمحاضرات التّعليمية الخاصة أهمّ التّقنيات للتّفكير النّقدي والفكري وكانت اللقاءات مع فنانين من كلّ أنحاء العالم من أهمّ التجارب التي عشتها خاصّة في عالم ليوناردو دافينشي الخاص في معرضه الذي أبرز شخصيّته العلمية والفكرية وجمع كثيرا من رسوماتهم وتخطيطاته وتأثره بالعلوم والترجمة من علوم الحضارات الأخرى. دافينشي الذي جمع بين العلم والفن ببراعة يؤكد أن البشر فنانون بطبعهم بسموّ روحهم وذواتهم الإلاهية غير أنّ المادية التي تطبع على القلوب وتحجّرها فتمنعها من الإستقرار النفسي. لذلك فإن الفنون الجميلة متنفس وشفاء للأحاسيس كما هي أداة فعالة للتأثير الإيجابي في الذات البشرية
كيف ترين تأثير عملكِ على تعزيز التفاهم الثقافي بين العالم العربي وأوروبا؟
الإندماج ليس طريق ذهاب بدون عودة وإنما هو طريق مفتوح من كلّ الجهات وهو تعاون إيجابي بين عاملين او شخصين او مجموعة أشخاص يتفقون على مبادئ إنسانية معيّنة وعلى النديّة والمساواة. إن لم يكن التعامل بالمثل فهذا ليس إندماجا وإنما إستغلال وإستعلاء وإجبار على الإنسلاخ الكليّ والإنصهار والذّوبان. ولقد أثبتت كلّ الدّراسات الإجتماعية والنفسية والإقتصادية في المجتمع الأوروبي عموما والمجتمع النمساوي خصوصا أنّ آليات الإندماج القديمة خلّفت أضرارا نفسية وجسدية وإقتصادية جسيمة لدى الاجيال الاولى و أبنائها وفكّكت المجتمع وجعلته هياكل وطبقات لذلك تخسر هذه الدول سنويا خيرة خبرائها ومفكّريها وعلمائها كما تخسر طاقات عمل ومتقاعدين او مستثمرين يفضلون العودة إلى بلدانهم الأصلية على البقاء في البلدان الأوروبية على الرغم ما تقدمه لهم هذه البلدان من تقدّم ورفاهية. فهم هذا بين الطبقات السياسية وصناع القرار ومحاولة تسلسط الضوء على أماني ومتطلّبات الحياة لكلّ الجاليات العربية المغتربة هو دورنا في دور الثقافة والمتاحف. دعوى فنانين مغترفين وآخرين من بلداننا هو همزة الوصل التي تفتح هذه البيوت الجميلة ومقتنياتها الفاخرة للحوار الحضاري والعمل على فهم الآخر دون احكام مسبقة و محاولات طمس هويته.
كيف تحافظين على التوازن بين تقديم المعلومات التاريخية والشخصية للزوار؟
هذا التوازن بين التاريخ البشري والشخصي هو من التّقنيات التي نتعلمها يوميا مع زوارنا مسافة الامان واجبة في مهنتنا لكننا نقف في الواجهة دائما ووجب علينا إحترام الحدود الشخصية الفردية ووضع حدود للثقة وللتعامل لذلك من المهنية في زياراتنا ومحاضراتنا إختيار الأسلوب والسؤال عن المجموعة والحديث مع الاطراف المشاركة عن أمنياتهم وتجاربهم وما يودون الحديث والسماع عنه.. انا لا أختار فعلا لكوني مختلفة أصلا في لون البشرة وفي طريقة اللبس وفي اللهجة واللغات عن كلّ زملائي وأحاول أن أشارك مع الحضور ما يرضي فضولهم دون أن يجرح مشاعرهم ولا يدخلهم في خصوصياتي. هذه الآليات والتقنيات نتعلمها مع أخصّائيين في المسرح والتمثيل وعلوم النفس والإجتماع مما يجعل عملنا نوعا من الفنّ المسرحي والبيرفورمونس نعمل فيه على جذب الإنتباه لحكايات مختلفة نكتب نصّها ونستعين بالتحف واللوحات لنجعلها ترقص معنا وتكشف أسرارها للمتلقي بكلّ فنية ومهنية
ما النصيحة التي تقدمينها للنساء العربيات الراغبات في دخول مجال السياحة الثقافية؟
أدخولوه آمنين ولا تخافوا أن تكنّ نساءا أو أجنبيات فهو العالم المفيد والذي منه نستفيد دائما